الأربعاء، 20 أبريل 2016

معركته الأخيرة

"يحق لك اختيار سلاح تدافع به عن نفسك أمام السياف الذي سوف ينفذ عليك حكم الاعدام"
قالها الملك للسجين الماثل أمامه وقد تم تكميمه وتقييد قدميه ويديه بالسلاسل. يشير الملك للحرس فيفكون القيود ويزيلون الكمامة من على فمه. يأتي أحد الخدم وهو يجر أمامه صندوق خشبي كبير يفتحه أمام السجين. بداخل الصندوق سيوف وأسهم ودروع ورماح وغيرها من الأسلحة. يحدق السجين في محتويات الصندوق قليلا ثم يمد يديه ويغلقه. ينظر له الجميع في دهشة.
"هل تتنازل عن حقك في الدفاع عن نفسك؟" يوجه الملك سؤاله للسجين. 
"كلا، سأستعين بسلاحي الخاص" يجيب السجين.
تصدر همهمات معترضة بين الحرس والخدم، ثم يتساءل أحدهم بصوت عال "هل يحق له ذلك؟"
يطرق الملك رأسه وهو يفكر قليلا ثم يرفعها مرة أخرى ويقول "لا بأس، أنت ميت على أية حال"
يمد السجين يده إلى جيبه ويخرج حجر أبيض صغير، يلتف السجين ليواجه الحائط بدلا من مواجهة السياف. تصدر بعض الضحكات الساخرة المكتومة عن الواقفين. يختار السجين أحد الأجزاء التي تظهر فيها أحجار الجدار دون أن تكون مغطاة بالصور أو الزخارف أو الستائر، يكتب عدة جمل، يلقي الحجر على الأرض، ثم يلتف ليواجه السياف مرة أخرى.
"هل انتهيت؟" يسأل الملك السجين. يهز السجين رأسه علامة الموافقة. "حسنا، اقطع رأسه" يقول الملك للسياف. يقف السجين بثبات، يشق السيف الهواء، ثم تطير رقبة السجين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تستيقظ شابة صغيرة وهي تشهق في فزع. تهرع أمها للغرفة لترى ما بها.
"رأيت للتو أبشع حلم، رأيتهم يعدمون الأستاذ". تطرق الأم رأسها في حزن ثم تقول "للأسف لم يكن حلما، لقد كنت تتذكرين ما حكاه لنا قريبنا الذي يعمل خادما بقصر الملك"
تتذكر الفتاة كل شيء، تتذكر تنكرها في زي شاب وتسللها مع آخرين ليلا والذهاب إلى منزل الأستاذ كي يعلمهم القراءة والكتابة. تتذكر أيضا أنها لم تحضر آخر درس لأنها كانت مريضة، ثم في صباح اليوم التالي أتاها نبأ القبض على الأستاذ وعلى الطلبة الذين كانوا معه. تدخل في نوبة بكاء مرير.
تقترب منها أمها وتربت على كتفها وتنظر لها قليلا ثم تقول "لا تنسي أنني حذرتك من هذا كله، لقد كنت سعيدة الحظ بأنك لم تذهبي تلك المرة وبأنهم لا يعلمون أنه كانت هناك فتاة ضمن الطلبة"
تتحدث الفتاة وكأنها لم تسمع ما قالته أمها "لماذا قتلوهم؟! ما ذنبهم؟! ما الذي فعلوه ليستحقوا هذا؟!ما الخطأ في تعلم القراءة والكتابة؟!"
ترد الأم "أنت تعلمين أن القراءة والكتابة محظورين منذ زمن بعيد لضررهما بالإنسان، فالبشر حين يتعلمون يؤدي ذلك للخلافات فيما بينهم ومن ثم الحروب، ولهذا تم رفع هذا العبء عنا"
تكمل الفتاة البكاء دون أن ترد على ما قالته الأم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"مولاي، هل نقوم بتنظيف الحائط؟" يسأل الخادم الملك وهو ينحني أمامه. 
"ولماذا تنظفه؟" يسأله الملك
"لإزالة ما كتبه السجين عليه" يرد الخادم
"أي سجين؟" يسأل الملك
"الأس..هذا الذي يطلقون عليه لقب الأستاذ" يقول الخادم متوترا
"لم أسمع به من قبل" يقول الملك في بساطة
"لـ.. لقد تم اعدامه بالأمس بناء على أوامركم يا مولاي" يقول الخادم وهو يتساءل عما أصاب الملك
"لم تتم أي عمليات إعدام بالأمس" يرد الملك وهو ينظر إلى الخادم وكأنه ينظر إلى شخص مجنون
"حسنا يا مولاي إن كان هذا ما تراه" يقول الخادم وقد أيقن أن لعنة ما أصابت الملك لقتله الأستاذ والطلبة
"أما زلت ترى شيئا مكتوبا على الحائط؟" يسأل الملك
"كلا..كلا يا مولاي ليس هناك شيء" يرد الخادم
"جيد، وإن كان لا يزال في نفسك شك يمكنك أن تسأل السياف" يقول الملك في لهجة أقرب للتهديد
تتسع عينا الخادم في رعب، يحدق في الحائط قليلا ثم يعود ببصره للملك مرة أخرى "كلا يا مولاي أنا متأكد أنه لا يوجد شيء على الحائط، ولم تحدث عمليات إعدام بالأمس، وليس هناك من يسمى بالأستاذ"
يهز الملك رأسه في رضا ثم يشير للخادم بالانصراف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"عمي..عمي" تنادي الفتاة على الرجل الذي يعمل خادما في قصر الملك
يلتفت إليها في تساؤل، فتقترب منه وتسأله في صوت أقرب للهمس "هل استطعت نقل رسالة الأستاذ إلى ورقة لتحضرها لي؟"
ينظر لها في حيرة ثم يقول "أية رسالة؟"، "تلك التي كتبها على الحائط في قصر الملك" ترد الفتاة وهي تنظر للرجل في استغراب. "لا أعلم ما تتحدثين عنه..لا توجد رسالة..ليس هناك من يسمى بالأستاذ" يجيبها الرجل. "لكنك أخبرتني أمس عن إعدام الأستاذ والطلبة!" تقول الفتاة وهي تحدق فيه بدهشة. "لم تتم عمليات إعدام بالأمس..هذا ما قاله الملك" يقول الرجل في حسم.
تتابع الفتاة الرجل وهو يسير مبتعدا وهي لا تكاد تصدق ما سمعته للتو.
تعود إلى منزلها وتقص على أمها ما حدث.
"نعم، سمعت نفس الكلام اليوم من المتحدث باسم الملك، فقد نفى الشائعات التي يرددها البعض حول وجود شخص يطلق عليه لقب الأستاذ ونفى كذلك حدوث أي عمليات إعدام بالأمس" تقول الأم.
"شائعات! يستحيل أن يصدق الناس هذا الهراء، فقد عرف الجميع الأستاذ وتعاملوا معه وكانوا يحترمونه، كما أن عدم عودة عدد من الشباب إلى ديارهم دليل على حدوث أمر ما، لا يمكن أن يصدق أحد هذا، لايمكن!" تصيح الفتاة وهي غاضبة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يدخل فتى صغير غرفته فيجد أمه تجلس على سرير أخيه وتبكي.
"ماذا حدث؟" يسأل الفتى أمه
"لا شيء، أفتقده فحسب" تجيبه من بين دموعها.
"نعم، وأنا أيضا، لم أعد أجد من أتحدث معه وأرافقه منذ اختفى في آخر رحلة صيد خرج فيها قبل عدة سنوات" يعلق الأخ
تتوقف الأم عن البكاء فجأة حيث تغلب دهشتها على حزنها وتحدق في ابنها بعينين متسعتين وتقول له "رحلة صيد؟ أي صيد؟! أخوك قتله الملك، أنت تعلم هذا جيدا!"
نظر لها في ريبة وقال "كلا، كل الناس تعلم أن أخي ورفاقه اختفوا في الغابة خلال احدى رحلات الصيد التي كانوا يقومون بها، هذا ما نادى به المنادي في شوارع البلد، وهذا ما قاله الملك في خطبته الأخيرة التي طلب منا في أولها أن نتذكر الذين فقدناهم في رحلة الصيد هذه وأن نقف حدادا على أرواحهم"
عقدت الصدمة لسان الأم فلم تستطع الرد واكتفت بالعودة للبكاء ولكن هذه المرة لم تكن على فقدان ابن واحد، بل اثنين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ذهبت الفتاة لتزور أهل رفاقها كما اعتادت أن تفعل كل سنة في ذكرى رحيلهم. طرقت باب أقربهم إلى منزلها فخرج لها الفتى الصغير، سلمت عليه وسألته عن أمه، فأشار إلى غرفته وابتعد عن الباب كي تستطيع الدخول.
دخلت الفتاة لتجد الأم منهارة. رفعت الأم رأسها لترى القادم، وجدت زميلة ابنها أمامها فقامت بسرعة وهي تجفف دموعها لاحتضانها، ثم اقتادتها إلى السرير وجلستا.
قبل أن تتكلم الفتاة بادرتها الأم بالسؤال "كيف حالك يا ابنتي؟"
"أنا بخير الحمدلله" أجابت الفتاة
"وكيف حال أهالي الباقين؟ هل قمت بزيارتهم؟" سألت الأم
صمتت الفتاة قليلا، ثم نظرت إلى الأرض حتى لا ترى وقع الخبر الذي ستقوله على ملامح الأم، ثم قالت "لقد توفى والدا أحد الزملاء صباح اليوم"
دمعت عينا الأم وهي تقول "إنا لله وإنا إليه راجعون، لم يتبق من الأهالي سواي، أليس كذلك؟"
هزت الفتاة رأسها بالإيجاب وهي تواصل النظر إلى الأرض. عادت الأم للبكاء مرة أخرى، فربتت الفتاة على كتفها وهي لا تدري ماذا تقول أو تفعل، وبعد مرور عدة دقائق شعرت بأنها تختنق فنهضت وقالت "هل تريدين مني أي مساعدة في المنزل أو أن أحضر لك شيئا من الخارج؟"
رفعت الأم رأسها وقالت "سلمت يا بنيتي، لا أريد شيئا"
ربتت الفتاة على كتفها مرة أخرى، وقالت "حسنا، سأذهب أنا الآن وسوف أمر عليك في وقت آخر، مع السلامة" وانسحبت للخارج في هدوء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صدق الجميع الرواية الملكية للأحداث، ولم يعد الأستاذ وطلبته سوى خرافات وقصص ألفتها الفتاة الشابة، هكذا كان يردد الجميع على مسامعها.
"أحضروا لي تلك الفتاة التي ما زالت تهذي بالقصص حول من يسمى بالأستاذ" قال الملك لحراسه
بعد ساعة كانت الفتاة ماثلة أمام الملك مكبلة ومكممة مثل أستاذها.
"ما روايتك حول ما أصاب الشبان الذين اختفوا من القرية؟" سألها الملك وهو يشير إلى أحد الحراس ليزيل الكمامة عن فمها.
نظرت إليه الفتاة قليلا ثم قالت بصوت مهتز "لقد..لقد قتلوا بناء على أوامرك"
"ولماذا أفعل ذلك؟" سألها الملك في هدوء
"لأنهم كانوا تلاميذ عند الأستاذ" ردت الفتاة بنفس الصوت المهتز
"ليس هناك من يدعى كذلك" رد الملك في هدوء
"بلى، لقد رأيته بنفسي، لقد كنت أحد تلاميذه" قالت الفتاة في انهيار
"هل كان هناك من يدعى بالأستاذ؟" وجه الملك سؤاله لباقي الموجودين
"لم نسمع به من قبل" رد عليه الجميع في وقت واحد
"هل قتل أحد بناء على أوامري؟" عاد الملك يسألهم مرة أخرى
"كلا" أجاب الجميع في الوقت نفسه
"أرأيتي؟ وإن كان لا يزال لديك شك فبإمكانك أن تتفقدي الحائط، تقولين أنه ترك رسالة هنا أليس كذلك؟ ابحثي عنها إذا" قال الملك للفتاة
قام أحد الحراس بفك قيود الفتاة مع انتهاء كلام الملك، فالتفتت تحدق في الجدران. مرت على الجدران بعينيها حتى توقفت عند كتابة الأستاذ، تحركت نحوها والجميع يترقبون ما سيحدث في قلق.
"في هذا اليوم قتلني الملك أنا و24 من طلابي، لسنا خونة، ولسنا بمجرمين، كنا فقط نتعلم القراءة والكتابة، وكل ما أريده الآن هو أن يعرف العالم قصتنا" مررت الفتاة اصبعها وهي تقرأ ما كتب.
عاد الملك للحديث مرة أخرى وقال "هل أنت بخير؟ انك تحدقين في الفراغ منذ عدة دقائق، لا توجد حتى زخارف هناك لتلفت نظرك"
التفتت الفتاة إليه في حيرة، فوجه الملك سؤاله لمن حوله "هل يرى أحد منكم شيئا هناك؟"
قال الجميع "كلا"
نظرت الفتاة للحائط مرة أخرى وحاولت أن تقرأ الرسالة مجددا ولكنها لم تستطع سوى أن تميز عدة كلمات متفرقة، فعادت تلتفت إلى الملك.
"ليس هناك شيء أليس كذلك؟" سألها الملك
عادت تنظر للحائط، في هذه المرة لم تعد تر سوى خربشات لا معنى لها.
"ما زال هناك جدار آخر لم تتفحصيه" قال الملك وهو يشير للجدار الأخير
مرت الفتاة بعينيها على الحائط، ثم عادت للمكان الذي سبق وأن رأت فيه الرسالة، بحثت فوجدت اللوحة التي كانت الرسالة تحتها ولكن لم يكن هناك شيئا مكتوبا، نظرت للموجودين فكان جميعهم في أماكنهم كما أن الثواني التي ابتعد فيها ناظريها عن الحائط لم يكونوا كافين ليذهب شخص إلى آخر القاعة فيمسح الرسالة ثم يعود إلى مكانه مرة أخرى. فركت عينيها لتتأكد أن ما تراه صحيح، وعادت تنظر لمكان الرسالة مرة أخرى ولكنها أيضا لم تجد شيئا.
التفتت الفتاة إلى الملك مرة أخرى ثم نظرت إلى الأرض وقالت بصوت أقرب للهمس "لا أرى شيئا"
"لم أسمع ما قلت" قال الملك
"لا أرى شيئا، ليست هناك رسالة، لم يكن هناك أستاذ" قالت الفتاة بطريقة أقرب إلى الانهيار
نظر الملك إلى الرسالة وأشار لأحد الخدم فقام الأخير بمسحها. عاد ينظر إلى الفتاة وارتسمت على شفتيه ابتسامة نصر، لقد انتصر، وهزم خصمه أخيرا في معركته الأخيرة.

الثلاثاء، 4 أغسطس 2015

أسطورة حية

مذكراتي العزيزة،
ما زال المنزل المجاور وساكنه يلفت نظري. المنزل ليس مكعب أصم كسائر المنازل وأشعر أن ساكنه كذلك ليس كسائر البشر. يبدو للوهلة الأولى أنه مثلهم، يذهب للعمل، يعود من العمل، ليست هناك أحداث كثيرة في حياته، لكن أعيننا التقت مرة ولم تكن عيانه كسائر العيون، لقد رأيت فيهما بريق الحياة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مذكراتي العزيزة،
اليوم تجرأت وطرقت باب وأخبرته أنني أود التعرف إليه. أسعدني أنه رحب بالفكرة واتفقنا أن نقضي يوم غد سويًا. أشعر بحماسة لا حدود لها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مذكراتي العزيزة،
كان يومًا رائعًا بحق، لقد قضيت برفقة جارنا وقتًا ممتعًا وتأكدت من أنه مختلف فعلًا. في البداية اتفقنا أن نتقابل في "كافيه" قريب. ذهبت مبكرًا قبل الموعد لأحظى ببعض الوقت للقراء كما أفعل كل صباح، وفي تمام الوقت الذي حددناه كان هو يدلف إلى المكان، لم أعلم أن هناك من يفعل ذلك. 
بدأنا بحديث خفيف ثم تطرقنا إلى بعض المواضيع والنقاشات الفكرية، اختلفنا في عدة نقاط لكنه ظل يتحدث بهدوء ولم ينفعل، لم أرى أحدًا يفعل ذلك من قبل. تحدثنا أيضا في مجالي بعض الوقت، ذكر بعض المعلومات الخاطئة فصححتها له وأريته الصواب من خلال هاتفي الذكي، وكانت المفاجأة أنه اعتذر عن هذا الخطأ واعترف بقصور معلوماته في هذا الجانب. كان جارنا مبتسما طوال الوقت، شكله مختلف للغاية عن الوجوه المتجهمة التي أراها يوميا. كان صريحا، مباشرا،وواضحا في حديثه عن نفسه وخلال عرضه لآرائه، كدت أنسى معنى هذه الصفات. 
لقد أيقنت تماما أن جارنا أسطورة حية، سمعت عن من هم مثله في قصص الصغار ولكن لم أقابل من يشبهه من قبل. أنتظر لقاءانا القادم بفارغ الصبر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مذكراتي العزيزة،
استيقظت اليوم ونظرت من النافذة فلم أجد سوى حطام بيت جارنا، ركضت إلى الأسفل بسرعة وسألت والداي عما حدث، أخبراني أن المنزل تمت ازالته منذ زمن طويل فلم أسأل عنه الآن. حكيت لهم عن صديقي الجديد وعن صفاته واليوم الذي قضيته معه، نصحاني بأن أرتاح قليلا ! لست بحاجة للراحة، ولا يمكن أن يكون جارنا من وحي خيالي، وأرفض أن أصدق أنه غير حقيقي. من قضيت معه يوم أمس هو شخص حي بالتأكيد، شخص حي أكثر من الأشباح التي تعبأ بها مدينتنا.

الاثنين، 8 يونيو 2015

رسائل

ألقى نظرة سريعة على الورقة التي أنهى كتابتها، قطعها من مفكرته، كرمشها وألقاها من النافذة الموجودة خلف مكتبه. أعاد الكرة عدة مرات، لم يعجبه ما كتب فتخلص من كل الأوراق وترك غرفة مكتبه وتوجة لغرفة النوم لينال قسطًا من الراحة. استيقظ في صباح اليوم التالي بعد ليلة مرهقة من النوم المتقطع نتيجة كثرة التفكير. أعد لنفسه كوبا من الشاي بالنعناع، قربه إلى وجهه وأخذ نفسا عميقًا ليملأ صدره برائحة النعناع، أخذ رشفة من الكوب ليتأكد أنه لا يحتاج إلى المزيد من السكر، ثم ذهب إلى مكتبه.
عندما دخل توجه الى التقويم المعلق على الجدار المجاور لباب الغرفة، قام بشطب يوم أمس وأحصى عدد الأيام المتبقية على تسليم كتابه الجديد "رسائل" إلى الناشر.وجد أنه لم يتبقى أمامه سوى ثلاثة أسابيع لا غير لينهي كتابة أربعة فصول لم ينتهي من أي منهم حتى الآن. توجه إلى مكتبه وجلس وشرع في الكتابة. بعد خمس ساعات من الكتابة أنهى الفصل الأول. لم يحظ برضاه الكامل، لكنه قال لنفسه لا بأس، سأكمل الكتابة ثم أقوم بالتعديلات اللازمة بعد الانتهاء من الثلاثة فصول المتبقية.
نهض من على المكتب وخرج إلى الشرفة ليستنشق بعض الهواء. عندما نظر إلى الأسفل وجد شابًا جالسًا بجوار احدى الشجيرات الموجودة في الحديقة الصغيرة المجاورة لبنايته، ألقى عليه نظرة سريعة ثم دخل إلى المكتب مرة أخرى ليرد على الهاتف.
رفع السماعة ليجد الناشر يسأله عن الكتاب ويذكره باليوم المحدد للتسليم. أخبره أنه على وشك الانتهاء ثم أنهى المكالمة سريعًا. وجد الساعة تقترب من العاشرة، قرر الخلود إلى النوم ليحظى ببداية مبكرة غدًا. استلقى على السرير وأغمض عينيه، أرقه التوتر نتيجة مكالمة الناشر، وأعجزه الاحباط بسبب عدم إنهاء الكتاب عن النوم. فتح عينيه ولكنه ظل مستلقيًا وأخذ يتذكر كيف قرر وهو صغير أن يصبح كاتبًا حتى يتسنى له تغيير حياة الآخرين للأفضل كما غير المؤلفون الذين كان يقرأ لهم حياته. ازداد احباطه بعد أن شعر أنه لم يغير حياة أي شخص حتى الآن، على حد علمه على الأقل. تساءل بعدها هل عرف كتابه المفضلين أنهم غيروا حياته ؟ 
سببت له كل هذه الأفكار صداعًا، فنهض وأعد فنجانًا من القهوة وقرر أن يبدأ في الفصل الثاني بما أنه لم يستطع النوم. كان قد أنهى الفصل مع أذان الفجر فأغلق المصباح وتوجه إلى غرفة نومه. امتلأت الأيام التالية بكثير من المحاولات الفاشلة التي ألقيت من النافذه مع قليل من المحاولات الناجحة التي ضمها إلى مسودة كتابه، استطاع إنهاء الكتاب قبل أسبوع من موعد التسليم.
في اليوم التالي ذهب إلى مكتب الناشر وسلمه نسخة من الكتاب وعاد إلى منزله سعيدًا. توجه إلى غرفة المكتب حيث الهاتف وجلس ينتظر مكالمة الناشر. بعد فترة شعر بالملل فخرج إلى الشرفة. أخذ يتسلى بمراقبة السيارات والمارة، ثم تحول بنظره إلى المربع الأخضر الصغير المجاور للبناية فوجد أطفالًا يلعبون ووجد شابًا بجانب احدى الشجيرات. لم يتمكن من تحديد اذا كان هو نفس الشاب الذي رآه سابقا أم لا، قطع رنين الهاتف حبل أفكاره فدخل مسرعًا.
شعر بمرارة واحباط شديد بعد أن أنهى المكالمة التي أخبرته فيها سكرتيرة الناشر أن الكتاب لم يحظ بالقبول وأنهم سيقومون بإلغاء تعاقدهم معه إن لم يكتب شيئا أفضل خلال الأسبوع المتبقي.
قذف بنسخة الكتاب التي كانت معه من النافذة وفكر في أن يلقي نفسه وراءها، ثم تراجع عن فكرة القفز لأن الارتفاع قد لا يكون كافيًا لقتله، ولكنه احتفظ بفكرة الانتحار. بعد تفكير طويل قرر أن يلقي بنفسه أمام السيارات التي تسير في الشارع المجاور، المدينة جديدة وستكون سرعة السيارة مناسبة لقتله، ويهذا يتسنى له الموت بجانب كتابه.
نزل من الشقة وتوجه للشارع ووقف على جانبه منتظرًا احدى سيارات النقل التي تعبر من هذا المكان أحيانًا. جاءت سيارة أخيرًا فتقدم نحو الشارع ليضع نفسه أمامها، وقبل أن يكمل طريقه وجد يدًا تجذبه وتعيده إلى جانب الطريق مرة أخرى.
التفت بغضب ليواجه منقذه فوجده الشاب الذي رآه جالسًا بجانب الشجيرات سابقًا. ابتسم الشاب وقال له لا تعبر الطريق وأنت شارد الذهن، كدت تدهس. قال له الكاتب أنه كان يحاول الانتحار ولم يكن شاردًا. أمسك الشاب بيد الكاتب بقوة خوفًا من أن يكرر المحاولة، وبيده الأخرى فتح حقيبته وأخرج الكثير من الأوراق. نظر إليه الكاتب في تساؤل، فقال له الشاب "منذ ثلاثة أسابيع جئت إلى نفس المكان للانتحار أنا أيضا، ولكن قبل أن أتقدم، هبطت ورقة على رأسي فقرأتها لأجد أنها رسالة وجهها أحدهم للمحبطين. حاولت أن أعرف مصدرها، عندها وقعت عيناي على كومة من الأوراق هناك وأشار إلى الحديقة المجاورة لبناية الكاتب. جمعت الأوراق وعدت بها إلى المنزل. عندما جئت في اليوم التالي وجدت مجموعة أخرى فأخذتها أيضا وتكرر ذلك في الأيام التالية. لكن اليوم عندما جئت لم أجد أوراقًا بل وجدت نسخة من مسودة كتاب وعندما قرأته وجدت الأوراق التي كنت قد جمعتها الى جانب فصول أخرى فجلست أقرأ الكتاب. لم أكد أفرغ من القراءة حتى رأيتك تلقي بنفسه أمام السيارة." قرب الشاب الأوراق للكاتب وقال له "لقد غير هذا الكتاب حياتي، وأتمنى أن يغير حياتك أنت أيضا." سرت في جسد الكاتب رجفة خفيفة وهو يقرأ العنوان المكتوب على الصفحة الأولى من الكتاب؛ "رسائل".

الأحد، 21 ديسمبر 2014

الغرفة

تفتح عينيها لتجد نفسها في غرفة ليس بها أحد سواها، وخالية الا من بعض الأوراق والأقلام وقليل من الطعام والماء. تتجه إلى الباب وتحاول فتحه ولكن لا ينفتح. تتجه إلى أحد الأركان وتجلس. سيفتح أحدهم الباب بعد فترة، هكذا تظن. 
يمضي أسبوع والوضع كما هو، تشعر بالملل الشديد فتتجه الى الورق وتمسك بالقلم وتبدأ في الرسم. ستمضي وقتها في الرسم وحتما سيتذكرها أحد قريبا. 
مضى أسبوع آخر وهي منكبة على الأوراق حتى ملت ولا زال الباب مغلقا كما هو، تعود الى الركن الذي كانت تجلس فيه من قبل، تغلق عينيها وتسند رأسها الى الحائط.
بعد ساعة استيقظت بسبب بعض الأصوات التي سمعتها، ظننت في البداية أنها تحلم، وبعد أن تأكدت أنها ما تسمعه حقيقة ظنت أن الباب قد تم فتحه، ولكن حين أصبحت مستيقظة تماما وجدت الباب كما هو أما الأصوات فكانت تصدر من الركن الذي تركت فيه ما رسمت. ذهبت الى الأوراق الملقاة على الأرض بعشوائية ورفعتها، هذه هي رسوماتها ولكن الحياة دبت فيها. تنظر إلى الشخصيات التي رسمتها فيبادلونها النظرات، تتحدث إليهم فيردون عليها، ستدفع هذه التسلية الجديدة الملل لمدة أسبوع آخر.
إنه الأسبوع الرابع، مضى شهر على وجودها في الغرفة وهي تنتظر أسبوعا تلو الآخر أن يفتح الباب ويسمح لها بالخروج. لم تفقد الأمل بعد، قالت لنفسها "سأنتظر هذه المرة لأسبوعين بدلا من أسبوع وهكذا لن أمل بسرعة". في هذين الأسبوعين غطت جدران الغرفة كلها بالورق، وأخذت ترسم. شجر هنا، ملعب هناك، ممر للمشاة في الوسط، وبحيرة صغيرة بجانبها مقعد في نهاية الممر حتى يستريح من يشعر بالتعب بعد السير. وكانت تدخل كل يوم الى هذه الحديقة المرسومة لتقضي بعض الوقت ثم تعود الى الغرفة وتطلع الى الباب منتظرة أن يفتح في أية لحظة.
أخيرا، في الأسبوع السادس تقرر أن الحديقة أفضل من الغرفة وتدخل وهي لا تنتوي العودة مرة أخرى. بعد عدة أيام وقد وصل الأسبوع الى نهايته تسمع صوت صرير خافت فتلتفت الى الحجرة التي كانت قد أعطتها ظهرها منذ فترة وترى الباب وهو يتحرك. تشعر بالسعادة وتهم بالخروج من الرسمة فتجد أنها لا يمكنها ذلك. تحاول عدة مرات أخرى وهي تنظر الى الباب الذي ترك مفتوحا ولكنها أصبحت حبيسة الحديقة ولا تستطيع الخروج.

الأحد، 19 أكتوبر 2014

كراسي

انطفأ النور في بهو قصر أشهر تاجر أخشاب في المدينة علانية، وأكبر سارقيها سرا معلنا نهاية اليوم بالنسبة لقاطنيه. بعد أن أغلق الجميع أبواب غرفهم، بدأت بعض الحركة في بهو القصر المظلم. في حدث معتاد، التف الأثاث الحديث حول أقدم كرسي موجود في المكان ليستمعوا الى قصصه عن مالكهم. كان الكرسي القديم جميلا متينا فيما مضى، مزين بالنقوش الفرعونية والفسيفساء، أما الآن فقد تشوه من كثرة المسامير والحبال المستخدمة لتثبيت أجزائه التي سقط بعضها بالفعل من قبل أو تلك التي على وشك السقوط.

بدأ الكرسي القديم حديثه بسرد تاريخه أمام الكراسي الحديثة وقال: "أنا أولى سرقات مالكنا، وكرسيه المفضل رغم تهالكي، كنت حاضرا في كل اجتماعات التخطيط، وشاهدت الغنائم التي تنقل للقصر فيما بعد. رأيت العمال وهم يدخلون أثاثا ويخرجون به بعد أن يصير قديما وبقيت هنا"

اقترب أحد الكراسي الحديثة من الكرسي القديم ودار بينهما هذا الحوار:
الكرسي الحديث: "وهل كان فعل مالكنا هذا يناسبك ؟" 
الكرسي القديم: "لا"
الكرسي الحديث: "اذن هل كنت تكره ما يفعل ؟"
الكرسي القديم: "كلا لم أكن أكره أفعاله أيضا، لم تناسبني فلم أحبها ولم تضرني فلم أكرهها"
الكرسي الحديث: "لكنه كان يستخدمك أنت دائما، ألم تشعر بالملل أو التعب ؟"
الكرسي القديم: "في الحقيقة، لقد انكسرت مرة مما تسبب بسقوط المالك وجرحه، ورغم أنه لم يكن جرحا بالغا لكنني تعرضت لدق المسامير وربط الحبال فقررت الاستسلام لقدري والبقاء متماسكا قدر الاماكن"
الكرسي الحديث: "لماذا لم تتحرك ؟ كان بامكانك استخدام عجلك للخروج، فهم لم يجردوك منه كما أرى"
الكرسي القديم: " لكن عجلاتي صدئة، حيث أنني لم أتحرك منذ تمت سرقتي"
هنا أدار الكرسي الحديث ظهره للقديم وهو يبتعد عنه ليستقر في مكانه الذي اختاره له سكان القصر وقال للكرسي القديم: "أنت الذي تركتها تصدأ"

منذ ذلك اليوم أصبح الكرسي الحديث منبوذا، فقد أساء الأدب من وجهة نظر الآخرين وظلوا يتعاملون وكأنه غير موجود حتى جاء اليوم الذي نظروا فيه الى مكانه فوجدوه خاليا، بينما سيقوا الى القبو الواحد تلو الآخر لتخترق المسامير أجزاءهم وتلتف الحبال حولهم ليتحول كل كرسي منهم الى كرسي قديم آخر.

الجمعة، 25 يوليو 2014

عالم موازي

على الأرض يوجد كل ما هو ثقيل على النفس من حزن وكآبة، أما في الأعلى يوجد كل ما هو سحري. 

في الأعلى، فوق سطح منزل جدتي كانت مملكتي السحرية. بمجرد أن أصعد الدرج الفاصل بين الطابق الآخر والسطح أنتقل الى عالمي الموازي. في ذلك العالم كنت لفترة كيميائية عظيمة، نافست كيميائيي العصر القديم والحديث، صنعت قنبلة نووية وترشحت لجائزة نوبل عدة مرات ولكن لا أذكر ان فزت بها أم لا. 

في فترة أخرى كنت مترجمة مشهورة، نقلت آلاف الكتب الى لغات أخرى وساهمت في نشر العلم بين الناس وفي تقريب وجهات النظر بينهم. 

حين اضطررت الى السفر، توجب علي أن أجد طريقة لنقل السحر معي، فلا أسطح أستطيع الصعود اليها هناك، وقتها اكتشفت أن السحر لا يُحمل الا في "القلب الطفل" الذي يجب أن يبقى كذلك حتى لا يفقد هذا الجزء من بهجة الحياة. 

حملت عالمي معي الى فناء منزلنا الجديد، وهناك تحت الشجر كنت من أغنى سيدات الأعمال ومن الأكثر تأثيرا ونفوذا حول العالم. 

لم أكن أدرك أن عالمي سريع التغير وأنه سوف ينقلني من أروقة الشركات الى طاولات الاجتماعات، ومن المناصب الادارية الى المناصب السياسية. بعد الثورة أصبحت في بعدي الخاص من أشهر من عملوا بالسياسة، وألقيت العديد من الخطب الحماسية، وساهمت بانجازاتي المختلفة في جعل العالم مكان أفضل للعيش. 

أقابل الأستاذ الجامعي الذي درَّس والدي عندما كان طالبا، يخبرني أنني يجب أن أضع كلية الاعلام في حسباني، رفض العقل الواعي الأمر في البداية ولكن اللاواعي لم ينتظر. عدت الى سطح منزل جدتي وعاد السحر للعمل، وهناك تسلمت جائزة نوبل للأدب في حفل مهيب وأنا درك في قرارة نفسي ككل المؤلفين والكتاب الكبار أن المتعة ليست في الجائزة التي أتسلمها ولكن في الشعور الذي ينتابك أثناء الكتابة ويشعرك بأنك تطير بين سطور ما تكتب. أخبرت صديقتيَّ بالاقتراح الجديد الذي جاء من عدة أشخاص، شجعتاني وأيدتا الاقتراح، تريان أن الاعلام تخصص يناسبني. 

بدخول الكلية وصلت الى لحظة مربكة تقاطع فيها المتوازيان، ما يحدث من سحر في البعد الآخر لم يعد مجرد خيالات بعيدة لطفلة تستكشف طريقها في الحياة، بل أصبح أقرب الى النبوءة التي تسعى لتحقيقها بقلق يدفعه الأمل المتولد من تحولها لحقيقة -بالنسبة لي- فجر كل يوم، فوق سطح منزل جدتي.

الجمعة، 28 فبراير 2014

أنت عملت ايه؟

هناك هذا المفهوم السائد الذي يعتبر مجرد فعل الانسان لشيء عظيم او ايهامه للآخرين بأنه فعل شيء عظيم يعطيه الحق في "التنطيط" على خلق الله به، وايذائهم، وظلمهم، وأخذ بعض او كل حقوقهم لأنه أفضل منهم وخدم البلد على عكسهم هم الرعاع الذين يعيشون عالة على المجتمع ولا يفعلون شيء طوال حياتهم سوى الشكوى والاعتراض.

فالجيش الذي عبر في 73 من حقه قتل الشباب وسحل الفتيات وحبس الرجال والنساء لأنه صاحب انجاز، رغم أن معظم من شاركوا في 73 قد انتهت خدمتهم ولم يحصلوا فعليا على مكافأة حقيقية والفريق سعد الدين الشاذلي خير مثال ولكن كل هذا الكلام لا يصح فهو -الجيش- "آخر عمود في البيت" !
وهناك مبارك صاحب أول ضربة جوية التي استغرقت 30 دقيقة حكم مصر على اثرها 30 سنة ونهب من خيراتها ما يكفي ابناءه وابناءهم حتى 30 جيل قادم من بعدهم، لكن على الأقل "كنا عارفين نعيش" رغم أننا كنا تحت الصفر بمقدار ما الا أن البعض يعتبرها "عيشة" لسبب او اخر !
ونأتي لمرسي الرئيس المؤمن حافظ القرآن الذي كان يصلي الفجر حاضرا في جماعة ويذهب لصلاة الجمعة في مسجد مختلف كل أسبوع بهذا كانوا يبررون فشله وكأن صلاته وصيامه لنا وليس له !
ومعنا على المسرح سيادة المشير (مش طنطاوي) ومميزاته هي أنه خلصنا من الاخوان الذين كانوا سيؤدون بنا الى الحرب الأهلية التي كان سيقع ضحية لها آلاف الناس (نعم مثلما يحدث الآن) ويكفي أن الأوضاع تتغير، صحيح الى الأسوأ ولكن لا يحق لك أن تفتح فمك ان لم يكن عندك بديل أما ان كان عندك البديل فلا يحق لك أن تفتح فمك أيضا لأنك لم تقدم للبلد ما قدمه السيسي ولن تفعل أبدا (رسول بقى)
وهذا الأمر لا يتعلق بالسياسة فحسب بل ستجده منتشر، ودائما هناك هذا الشخص الذي لن يكون من المسموح لك أن تعترض عليه، وغير مقبول منك أبدا أن تنتقده لأنه "أكبر منك بيوم وأعلم منك بسنة" أو لأنك "معندكش بديل" أو ﻷنه "عمل كذا للبلد، أنت عملت ايه؟"
فحتى يأتي ذلك اليوم الذي يدرك فيه عموم الناس أن:
-لا أحد معصوم كبير كان أو صغير، وأن الحكمة هي الضالة الحقيقية سواء كانت من طفل او شيخ، قالها مؤمن او كافر، محب او كاره، تشابهنا في الايدلوجية او اختلفنا كل ذلك تفاصيل جانبية والمحتوى هو هو ما يهم حقا.
-من حق المواطن الاعتراض على الحكومة في امر ما ودور السلطة ان تحل مشكلته ان وجدت او تبين له خطأ حكمه بوسيلة مبسطة ولكنها علمية في الوقت نفسه ودون حديث عن "الكفتة".
-بديل القذارة، النظافة .. بديل الظلم، العدل .. بديل الفاشية الدينية/العسكرية، الحكم المدني .. بديل الديكتاتورية، الديموقراطية (بكل جوانبها وليس الصندوق او المظاهرات فقط) .. وبديل تدخل الجيش هو عدم تدخل الجيش (نعم، الموضوع بهذه البساطة).
-الكوادر لا تنمو والطاقات لا تتفجر الا في جو من الحريات، لا يمكنك لوم النبات على ذبوله وموته عندما تمنع عنه الماء والهواء والشمس.
-الاحسان مرة لا يبرر أو يمحو الاساءات المتكررة بل العكس هو الصحيح، فكثرة الأخطاء تنسي الاخرين ما أصبت فيه .
-الانسان المجتهد في دراسته أو عمله ولم يخالف القانون (مش عندنا ؟ عديها) هو في الحقيقة يقوم بدوره و"بيعمل حاجة للبلد" حتى وان لم يكن من أصحاب الاختراعات والمؤلفات والشهرة.
الى أن يتم ادراك كل هذا سأظل أفكر في هذا العمل (حقيقي او مفبرك) الذي سوف "أذل بيه" سائر بني آدم، وأبرر به كل أخطائي واخفاقاتي وكلما انتقدني أحدهم نظرت له بكل اشمئزاز، متحدثة من "طراطيف" أنفي قائلة: "أنت عملت ايه للبلد؟"