"يحق لك اختيار سلاح تدافع به عن نفسك أمام السياف الذي سوف ينفذ عليك حكم الاعدام"
قالها الملك للسجين الماثل أمامه وقد تم تكميمه وتقييد قدميه ويديه بالسلاسل. يشير الملك للحرس فيفكون القيود ويزيلون الكمامة من على فمه. يأتي أحد الخدم وهو يجر أمامه صندوق خشبي كبير يفتحه أمام السجين. بداخل الصندوق سيوف وأسهم ودروع ورماح وغيرها من الأسلحة. يحدق السجين في محتويات الصندوق قليلا ثم يمد يديه ويغلقه. ينظر له الجميع في دهشة.
"هل تتنازل عن حقك في الدفاع عن نفسك؟" يوجه الملك سؤاله للسجين.
"كلا، سأستعين بسلاحي الخاص" يجيب السجين.
تصدر همهمات معترضة بين الحرس والخدم، ثم يتساءل أحدهم بصوت عال "هل يحق له ذلك؟"
يطرق الملك رأسه وهو يفكر قليلا ثم يرفعها مرة أخرى ويقول "لا بأس، أنت ميت على أية حال"
يمد السجين يده إلى جيبه ويخرج حجر أبيض صغير، يلتف السجين ليواجه الحائط بدلا من مواجهة السياف. تصدر بعض الضحكات الساخرة المكتومة عن الواقفين. يختار السجين أحد الأجزاء التي تظهر فيها أحجار الجدار دون أن تكون مغطاة بالصور أو الزخارف أو الستائر، يكتب عدة جمل، يلقي الحجر على الأرض، ثم يلتف ليواجه السياف مرة أخرى.
"هل انتهيت؟" يسأل الملك السجين. يهز السجين رأسه علامة الموافقة. "حسنا، اقطع رأسه" يقول الملك للسياف. يقف السجين بثبات، يشق السيف الهواء، ثم تطير رقبة السجين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تستيقظ شابة صغيرة وهي تشهق في فزع. تهرع أمها للغرفة لترى ما بها.
"رأيت للتو أبشع حلم، رأيتهم يعدمون الأستاذ". تطرق الأم رأسها في حزن ثم تقول "للأسف لم يكن حلما، لقد كنت تتذكرين ما حكاه لنا قريبنا الذي يعمل خادما بقصر الملك"
تتذكر الفتاة كل شيء، تتذكر تنكرها في زي شاب وتسللها مع آخرين ليلا والذهاب إلى منزل الأستاذ كي يعلمهم القراءة والكتابة. تتذكر أيضا أنها لم تحضر آخر درس لأنها كانت مريضة، ثم في صباح اليوم التالي أتاها نبأ القبض على الأستاذ وعلى الطلبة الذين كانوا معه. تدخل في نوبة بكاء مرير.
تقترب منها أمها وتربت على كتفها وتنظر لها قليلا ثم تقول "لا تنسي أنني حذرتك من هذا كله، لقد كنت سعيدة الحظ بأنك لم تذهبي تلك المرة وبأنهم لا يعلمون أنه كانت هناك فتاة ضمن الطلبة"
تتحدث الفتاة وكأنها لم تسمع ما قالته أمها "لماذا قتلوهم؟! ما ذنبهم؟! ما الذي فعلوه ليستحقوا هذا؟!ما الخطأ في تعلم القراءة والكتابة؟!"
ترد الأم "أنت تعلمين أن القراءة والكتابة محظورين منذ زمن بعيد لضررهما بالإنسان، فالبشر حين يتعلمون يؤدي ذلك للخلافات فيما بينهم ومن ثم الحروب، ولهذا تم رفع هذا العبء عنا"
تكمل الفتاة البكاء دون أن ترد على ما قالته الأم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"مولاي، هل نقوم بتنظيف الحائط؟" يسأل الخادم الملك وهو ينحني أمامه.
"ولماذا تنظفه؟" يسأله الملك
"لإزالة ما كتبه السجين عليه" يرد الخادم
"أي سجين؟" يسأل الملك
"الأس..هذا الذي يطلقون عليه لقب الأستاذ" يقول الخادم متوترا
"لم أسمع به من قبل" يقول الملك في بساطة
"لـ.. لقد تم اعدامه بالأمس بناء على أوامركم يا مولاي" يقول الخادم وهو يتساءل عما أصاب الملك
"لم تتم أي عمليات إعدام بالأمس" يرد الملك وهو ينظر إلى الخادم وكأنه ينظر إلى شخص مجنون
"حسنا يا مولاي إن كان هذا ما تراه" يقول الخادم وقد أيقن أن لعنة ما أصابت الملك لقتله الأستاذ والطلبة
"أما زلت ترى شيئا مكتوبا على الحائط؟" يسأل الملك
"كلا..كلا يا مولاي ليس هناك شيء" يرد الخادم
"جيد، وإن كان لا يزال في نفسك شك يمكنك أن تسأل السياف" يقول الملك في لهجة أقرب للتهديد
تتسع عينا الخادم في رعب، يحدق في الحائط قليلا ثم يعود ببصره للملك مرة أخرى "كلا يا مولاي أنا متأكد أنه لا يوجد شيء على الحائط، ولم تحدث عمليات إعدام بالأمس، وليس هناك من يسمى بالأستاذ"
يهز الملك رأسه في رضا ثم يشير للخادم بالانصراف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"عمي..عمي" تنادي الفتاة على الرجل الذي يعمل خادما في قصر الملك
يلتفت إليها في تساؤل، فتقترب منه وتسأله في صوت أقرب للهمس "هل استطعت نقل رسالة الأستاذ إلى ورقة لتحضرها لي؟"
ينظر لها في حيرة ثم يقول "أية رسالة؟"، "تلك التي كتبها على الحائط في قصر الملك" ترد الفتاة وهي تنظر للرجل في استغراب. "لا أعلم ما تتحدثين عنه..لا توجد رسالة..ليس هناك من يسمى بالأستاذ" يجيبها الرجل. "لكنك أخبرتني أمس عن إعدام الأستاذ والطلبة!" تقول الفتاة وهي تحدق فيه بدهشة. "لم تتم عمليات إعدام بالأمس..هذا ما قاله الملك" يقول الرجل في حسم.
تتابع الفتاة الرجل وهو يسير مبتعدا وهي لا تكاد تصدق ما سمعته للتو.
تعود إلى منزلها وتقص على أمها ما حدث.
"نعم، سمعت نفس الكلام اليوم من المتحدث باسم الملك، فقد نفى الشائعات التي يرددها البعض حول وجود شخص يطلق عليه لقب الأستاذ ونفى كذلك حدوث أي عمليات إعدام بالأمس" تقول الأم.
"شائعات! يستحيل أن يصدق الناس هذا الهراء، فقد عرف الجميع الأستاذ وتعاملوا معه وكانوا يحترمونه، كما أن عدم عودة عدد من الشباب إلى ديارهم دليل على حدوث أمر ما، لا يمكن أن يصدق أحد هذا، لايمكن!" تصيح الفتاة وهي غاضبة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يدخل فتى صغير غرفته فيجد أمه تجلس على سرير أخيه وتبكي.
"ماذا حدث؟" يسأل الفتى أمه
"لا شيء، أفتقده فحسب" تجيبه من بين دموعها.
"نعم، وأنا أيضا، لم أعد أجد من أتحدث معه وأرافقه منذ اختفى في آخر رحلة صيد خرج فيها قبل عدة سنوات" يعلق الأخ
تتوقف الأم عن البكاء فجأة حيث تغلب دهشتها على حزنها وتحدق في ابنها بعينين متسعتين وتقول له "رحلة صيد؟ أي صيد؟! أخوك قتله الملك، أنت تعلم هذا جيدا!"
نظر لها في ريبة وقال "كلا، كل الناس تعلم أن أخي ورفاقه اختفوا في الغابة خلال احدى رحلات الصيد التي كانوا يقومون بها، هذا ما نادى به المنادي في شوارع البلد، وهذا ما قاله الملك في خطبته الأخيرة التي طلب منا في أولها أن نتذكر الذين فقدناهم في رحلة الصيد هذه وأن نقف حدادا على أرواحهم"
عقدت الصدمة لسان الأم فلم تستطع الرد واكتفت بالعودة للبكاء ولكن هذه المرة لم تكن على فقدان ابن واحد، بل اثنين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ذهبت الفتاة لتزور أهل رفاقها كما اعتادت أن تفعل كل سنة في ذكرى رحيلهم. طرقت باب أقربهم إلى منزلها فخرج لها الفتى الصغير، سلمت عليه وسألته عن أمه، فأشار إلى غرفته وابتعد عن الباب كي تستطيع الدخول.
دخلت الفتاة لتجد الأم منهارة. رفعت الأم رأسها لترى القادم، وجدت زميلة ابنها أمامها فقامت بسرعة وهي تجفف دموعها لاحتضانها، ثم اقتادتها إلى السرير وجلستا.
قبل أن تتكلم الفتاة بادرتها الأم بالسؤال "كيف حالك يا ابنتي؟"
"أنا بخير الحمدلله" أجابت الفتاة
"وكيف حال أهالي الباقين؟ هل قمت بزيارتهم؟" سألت الأم
صمتت الفتاة قليلا، ثم نظرت إلى الأرض حتى لا ترى وقع الخبر الذي ستقوله على ملامح الأم، ثم قالت "لقد توفى والدا أحد الزملاء صباح اليوم"
دمعت عينا الأم وهي تقول "إنا لله وإنا إليه راجعون، لم يتبق من الأهالي سواي، أليس كذلك؟"
هزت الفتاة رأسها بالإيجاب وهي تواصل النظر إلى الأرض. عادت الأم للبكاء مرة أخرى، فربتت الفتاة على كتفها وهي لا تدري ماذا تقول أو تفعل، وبعد مرور عدة دقائق شعرت بأنها تختنق فنهضت وقالت "هل تريدين مني أي مساعدة في المنزل أو أن أحضر لك شيئا من الخارج؟"
رفعت الأم رأسها وقالت "سلمت يا بنيتي، لا أريد شيئا"
ربتت الفتاة على كتفها مرة أخرى، وقالت "حسنا، سأذهب أنا الآن وسوف أمر عليك في وقت آخر، مع السلامة" وانسحبت للخارج في هدوء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صدق الجميع الرواية الملكية للأحداث، ولم يعد الأستاذ وطلبته سوى خرافات وقصص ألفتها الفتاة الشابة، هكذا كان يردد الجميع على مسامعها.
"أحضروا لي تلك الفتاة التي ما زالت تهذي بالقصص حول من يسمى بالأستاذ" قال الملك لحراسه
بعد ساعة كانت الفتاة ماثلة أمام الملك مكبلة ومكممة مثل أستاذها.
"ما روايتك حول ما أصاب الشبان الذين اختفوا من القرية؟" سألها الملك وهو يشير إلى أحد الحراس ليزيل الكمامة عن فمها.
نظرت إليه الفتاة قليلا ثم قالت بصوت مهتز "لقد..لقد قتلوا بناء على أوامرك"
"ولماذا أفعل ذلك؟" سألها الملك في هدوء
"لأنهم كانوا تلاميذ عند الأستاذ" ردت الفتاة بنفس الصوت المهتز
"ليس هناك من يدعى كذلك" رد الملك في هدوء
"بلى، لقد رأيته بنفسي، لقد كنت أحد تلاميذه" قالت الفتاة في انهيار
"هل كان هناك من يدعى بالأستاذ؟" وجه الملك سؤاله لباقي الموجودين
"لم نسمع به من قبل" رد عليه الجميع في وقت واحد
"هل قتل أحد بناء على أوامري؟" عاد الملك يسألهم مرة أخرى
"كلا" أجاب الجميع في الوقت نفسه
"أرأيتي؟ وإن كان لا يزال لديك شك فبإمكانك أن تتفقدي الحائط، تقولين أنه ترك رسالة هنا أليس كذلك؟ ابحثي عنها إذا" قال الملك للفتاة
قام أحد الحراس بفك قيود الفتاة مع انتهاء كلام الملك، فالتفتت تحدق في الجدران. مرت على الجدران بعينيها حتى توقفت عند كتابة الأستاذ، تحركت نحوها والجميع يترقبون ما سيحدث في قلق.
"في هذا اليوم قتلني الملك أنا و24 من طلابي، لسنا خونة، ولسنا بمجرمين، كنا فقط نتعلم القراءة والكتابة، وكل ما أريده الآن هو أن يعرف العالم قصتنا" مررت الفتاة اصبعها وهي تقرأ ما كتب.
عاد الملك للحديث مرة أخرى وقال "هل أنت بخير؟ انك تحدقين في الفراغ منذ عدة دقائق، لا توجد حتى زخارف هناك لتلفت نظرك"
التفتت الفتاة إليه في حيرة، فوجه الملك سؤاله لمن حوله "هل يرى أحد منكم شيئا هناك؟"
قال الجميع "كلا"
نظرت الفتاة للحائط مرة أخرى وحاولت أن تقرأ الرسالة مجددا ولكنها لم تستطع سوى أن تميز عدة كلمات متفرقة، فعادت تلتفت إلى الملك.
"ليس هناك شيء أليس كذلك؟" سألها الملك
عادت تنظر للحائط، في هذه المرة لم تعد تر سوى خربشات لا معنى لها.
"ما زال هناك جدار آخر لم تتفحصيه" قال الملك وهو يشير للجدار الأخير
مرت الفتاة بعينيها على الحائط، ثم عادت للمكان الذي سبق وأن رأت فيه الرسالة، بحثت فوجدت اللوحة التي كانت الرسالة تحتها ولكن لم يكن هناك شيئا مكتوبا، نظرت للموجودين فكان جميعهم في أماكنهم كما أن الثواني التي ابتعد فيها ناظريها عن الحائط لم يكونوا كافين ليذهب شخص إلى آخر القاعة فيمسح الرسالة ثم يعود إلى مكانه مرة أخرى. فركت عينيها لتتأكد أن ما تراه صحيح، وعادت تنظر لمكان الرسالة مرة أخرى ولكنها أيضا لم تجد شيئا.
التفتت الفتاة إلى الملك مرة أخرى ثم نظرت إلى الأرض وقالت بصوت أقرب للهمس "لا أرى شيئا"
"لم أسمع ما قلت" قال الملك
"لا أرى شيئا، ليست هناك رسالة، لم يكن هناك أستاذ" قالت الفتاة بطريقة أقرب إلى الانهيار
نظر الملك إلى الرسالة وأشار لأحد الخدم فقام الأخير بمسحها. عاد ينظر إلى الفتاة وارتسمت على شفتيه ابتسامة نصر، لقد انتصر، وهزم خصمه أخيرا في معركته الأخيرة.